المفارقة التصويرية في "حمرة خجل" للأديب مجدي شلبي بقلم الكاتب والناقد: محمود الديداموني


المفارقة التصويرية في "حمرة خجل"
للأديب مجدي شلبي

بقلم الكاتب  والناقد: محمود الديداموني
منذ أن قرأت هذه المجموعة القصصية القصيرة جدا "حمرة خجل"(1) للأديب مجدى شلبي وأنا أحاول الإمساك بالخيط الذي يربط نسيجها كاملا فهd سواء من حيث تقنية البناء أو فنية التناول بعيدا عن الموضوع والأفكار، نستطيع الحديث عن الموضوعات والأفكار بشكل مستفيض، ولأننا بصدد قصص قصيرة جدا إذن لابد أن ندرك سمات هذه الكتاب التd تتجلى من وجهة نظري في التكثيف حيث  يعمد كتاب القصة القصيرة جداً إلى الجمل القصيرة المكثفة، التي تصور عالماً رحباً تتسع دلالاته مع كل قراءة جديدة... وقد حدد الدكتور أحمد جاسم الحسين مقومات القصة القصيرة جدا في كتابه: ”القصة القصيرة جدا”، وذلك في أربعة أركان أساسية، وهي: القصصية، والجرأة، والوحدة، والتكثيف... والحقيقة أن هناك الكثير من الحديث والآراء فى هذا الإطار تتعلق بالترابط بين العنوان والحبكة والنهاية وكذلك إحداث الدهشة مع تحوير النقاد للألفاظ واختيار الناقد ما يرتئيه تعبيرا عن رؤيته النقدية فى موضع الدراسة أو البحث.
 فهل نجح كاتبنا فى منحنا النص الذي يصل بنا للدلالة وإحداث الإمتاع الذهني والوجداني في آن، في إطار مترابط ومكثف يقوم على الإيجاز منطلقا من أن القصة القصيرة جدا ليست نكته تكتب بل فن له أدواته وأركانه وسماته؟
سنحاول استجلاء ذلك من خلال نصوص مجموعته  ولعل الخيط الذي يمسك النسيج تجلى في عنصر المفارقة التصويرية الذي ظل قاسما مشتركا في معظم نصوص القصص القصيرة جدا  حيث المفارقة تقدم الواقع الاجتماعي والسياسي والنفسي للشخوص والأبطال وانعكاسات ذلك على المكان والزمان بطريقة تبعث على السخرية من كل هذا وفي نفس الوقت ترسم ابتسامة ربما تكون ابتسامة باكية في أغلب أحوالها، وكما عرفت المفارقة بأنها تعبير بلاغي يركز على تلك العلاقة الذهنية بين الألفاظ. تصدر هذه المفارقة عن وعي شديد للذات بما حولها. لذا فإنها حسب الناقدة نبيلة إبراهيم، اتصال سري بين الكاتب والمتلقي(2)، إذا كانت المفارقة، تكشف عن تناقضات الحياة التي لا يستطيع فيها الإنسان الوصول إلى حقيقة واضحة. فإن السخرية تسلب الشخص قدراته. وتعريه من كل ما يتخفى فيه ويتحصن وراءه. إن المفارقة، قد تصنع السخرية.
إن السخرية في هذا الإطار، مفهوم مرادف لمفهوم الضحك. سخرية وضحك باعتبارهما موقف ورؤيا للحياة والكون. إن كلمة سخرية تتضمن معنى التفاوت في المستوى. محددة خط سير فيه معنى الاستعلاء. بمعنى حركة من الأعلى إلى الأسفل. وقد تحمل معنى لعبة عدوانية متجهة إلى هدف معين. إذ تكثف السخرية المتجهة من الأعلى إلى الأسفل معنى الاستهزاء المحقر.
وسنذهب للنصوص مباشرة نبحث عن كل ما سبق أو بعض ما سبق ونأخذ مثالا أو مثالين ندلل بهما على طبيعة هذا الفن.
فى قصة الرقم واحد يقول :
"غرفة واحدة نسكنها، طعام واحد نأكله، وثوب واحد ألبسه طوال العام!
فى المدرسة كان مدرس الحساب يشير إلى عجائب الرقم واحد؛ شعرت أنه يقصدني؛ فأطرقت بصرى وبكيت...
لم يمض كثير وقت؛ حتى ظهر اسمى رقم واحد فى قائمة الناجحين؛ فحمدت الله الواحد الأحد وسجدت له شكراً."
قدم الكاتب لوحة سردية قائمة على تركيب الجمل مزج فيها بين الوجداني والذهني بطريقة تبعث على جمالية البناء وتعميق الدلالة في أنه من رحم المعاناة قد يولد النجاح وهنا نؤكد على حقيقة واضحة يسعى لها كاتبنا فى هذه المجموعة تتعلق بكم الرسائل التي يطلقها هنا وهناك للواقع الاجتماعى والسياسى للمجتمع . فالبناء مكثف وفي جمل قصيرة جدا ووازن بين الوجداني والذهني ومنح رسالة سردية للمتلقي.
بينما فى أقصوصة "غير مأسوف عليه" التي يقول فيها:
(1)
امتطى صهوة الجواد، وبعد أن اعتدل في جلسته؛ أصدر قراراً بإعدام جميع المشاة!
(2)
سقط أرضاً؛ فاعتذرـ بعد فوات الأوان!
(3)
حملت الجياد السائر الوحيد إلى مثواه الأخير؛ غير مأسوف عليه!
(4)
كُتب على شاهد القبر: هنا يرقد جثمان فخامة الزعيم الذي قتل شعبه!
قام بتقسيمها فنيا إلى أرقام، تحت كل رقم كتب جملة عبرت عن حالة قصصية، مانحا جزيئاته السردية خطا واصلا من خلال البطل "الشخصية" عبر اختصار حركية الزمن بشكل يدعو للمتابعة، فقد قدم عبر جمله القصيرة جدا حكاية يستطيع المتلقى أن يتخيل أو يرسم بذهنه صورا سردية عبر هذا الزمن المختزل في زمن الحكي.
بينما يقدم الكاتب توصيفا جميلا ودالا عن حال الصحافة وتردي واقعنا الإعلامي والصحفي حين يقول فى "الانفلونزا هى الحل!"
(1)
جلس إلى مكتبه؛ ليعد مقاله اليومي؛ أظلمت شاشة ذاكرته؛ خلع رأسه وعصرها بعنف؛ فسقطت من أنفه عبارات لزجة؛ جمعها في قرطاسه؛ وقذف بها إلى المطبعة...
(2)
فى اليوم التالى لم تعد لديه مشكلة؛ فقد انهمرت شلالات كتاباته (الرائعة) بفضل إصابته بانفلونزا حادة مبدعة!...
رغم صعوبة المفردات التى استخدمها الكاتب إلا أنه ككاتب له مطلق الحرية في التعبير عن رؤيته لهذا الواقع الصحفي المرير وكأنهم بالفعل يلقون بمخاط أفكارهم إلى المجتمع بما يلوث هذا الواقع ويحمل بذور العدوى داخله.
ولم يترك كاتبنا قضية إلا طرقها فها هو يعبر عن قضية اجتماعية خطيرة تتعلق بالبناء الأسري في قصة "عقود النعام" فيقول:
"ما كاد المأذون يدعو الولي ليردد خلفه:
ـ قبلت زواجك من موكلتى البكر...
حتى رأت العروس ألا تبدأ حياتها الزوجية بكذب وخداع وتضليل؛ فأعلنت في صراحة أنها ليست عذراء...
والحقيقة أنه كان من المهم أن تنتهى القصة عند هذه النهاية الصادمة، رغم أن الكاتب قدم لتلك النهاية حين ذكر كلمات ( كذب/ خداع/ تضليل ) ولم يكن هناك من داع لذكر تداعيات ذلك على والدها، لأنه بالتبعية يجب أن يتخيل المتلقى النهاية وتركه للتساؤلات مع وضعه لنهايات محتملة تخصه هو وهو ما لم يتركه له الكاتب هنا. فقال مسترسلا: " شعر الأب برغبة في الاختباء والاختفاء عن الأحياء؛ تحت الأرض؛ بعيداً عن وصمة عار انتهاك الشرف والعرض، ثم سقط مغشياً عليه...
رغم سعى ابنته لإفاقته؛ إلا أن القدر حقق له رغبته."
وها أنا أعود من جديد للحديث عن الموضوع وأستمر فى ذلك فها هو يضرب بقوة على عادات المجتمع فى تفضيل الذكور على الإناث ويقدمها فى جمل قصيرة محملة بالتشويق رغم قصر جملها فيقول فى قصة "الحدود الأربعة والسقف":
 "لم تكن تعرف معنى للأسطح المستوية (الحادة والمتقاطعة) إلا بعد أن لُفظت خارج عالمها المستدير...
عندئذ ارتطمت بسطح بارد، ارتعشت، صرخت؛ فابتسم الجميع من حولها وامتلأوا بالدفء!...
وجهها نحو السقف، لم تقو عينيها على رؤية شيء؛ تلقفتها الأيدي في لهفة وشوق؛ متسائلين:
ـ ولد؟... ولد؟...
جاءت الإجابة بانكسار مع هز الرأس بإشارة نفي؛ فألقوها في (الطشت)، وانصرفوا في صمت !".
لقد حكى الكاتب لحظة الميلاد مبديا الكثير من ردود الأفعال وراسما الكثير من الوجوه ساعتئذ...
بينما في قصة "البحث عن الذات!" يقول:
استغرقت في عملها وقتاً أطول من المعتاد؛ استبد بزوجها القلق؛ أبلغ الشرطة، ونشر إعلاناً في جميع وسائل الإعلام...
في طريق عودتها إلى البيت؛ أخذتها الشفقة بتلك السيدة المفقودة؛ فتسرب الوقت من بين يديها؛ في رحلة البحث عنها؛ قبل أن تدرك أن مواصفات الإعلان؛ تنطبق عليها بالتمام والكمال!".
هنا يقدم لوحة نفسية قائمة على المفارقة لكنها مفارقة تأملية، تستثير الشجون وتدعونا للوقوف على أعتاب الذات لنستعيد ما قد فقد منها أو تاه فى متاهة الأيام والأماكن.
الحقيقة أن الكاتب في هذه القصص القصيرة جدا حافظ على التكثيف في كثير من قصصه وطاف بنا عبر موضوعات اجتماعية كثيرة قدم فيها رؤيته وموقفه من خلال اعتماده على المفارقة التصويرية في معظم قصص مجموعته وقدم العديد من اللوحات الساخرة لهذا الواقع ونذكر من ذلك قصته الطويلة نسبيا والمقسمة إلى فقرات مرقمة بعنوان "الميرى وسنينه":
(1)
انهمرت دموعه وسط شلال من عبارات الثناء؛ فاليوم حل موعد إحالته للتقاعد؛ صافحة المدير وأشاد به:
ـ لقد كنت بحق (حمار شغل)!
حمل نيشان الوصف على ظهره، ومضى إلى بيته فخوراً به!
(2)
على مدى سنوات قطع الطريق الواصل بين بيته والعمل ذهاباً وإياباً؛ أدرك الآن ألا ذهاب بعد اليوم؛ فحرص على مصافحة جميع العمارات والحوانيت والأرصفة والناس بعيونه الدامعة مصافحة وداع؛ شعر بدوار؛ أغمض عينيه، وما كاد يرتكن إلى إحدى السيارات الواقفة؛ حتى انطلقت صافرات الانذار؛ فقبضوا عليه بتهمة الاشتباه في سرقتها... وبعد أن تمت إهانته بشكل تام؛ اكتشفوا براءته من هذا الاتهام!
(3)
ـ حمدا لله على سلامتك يا (سبع البرمبة)!
بهذا العبارة ذات المعانى المقلوبة؛ استقبلته زوجته زنوبة؛ استقبالها الحافل المعتاد؛ وزادت عليه سؤالاً استنكارياً:
ـ (ما جاب الغراب؟!)!
(4)
فى المقهى المجاور اعتاد الجلوس دون أنيس في ذات المكان؛ يحتسي مشروب الينسون؛ عله ينسيه ما به من أحزان وآلام... وعلى مقربة منه شاهد عشاق النرجيلة يدخنون؛ وتبدو عليهم مظاهر السعادة والانسجام؛ تنفس بعمق؛ فانتقلت عدواهم إليه؛ وما هي إلا لحظات؛ حتى كانت المقهى محاصرة بقوات مكافحة المخدرات!.
(5)
قام مفزوعاً من نومه؛ عندما أيقظته أمه؛ للذهاب إلى مكتب العمل للبحث عن وظيفة؛ فحكى لها ما رآه من حلم؛ قبل أن يحمل على ظهره شهاداته الدراسية، وسيرته الذاتية، مصراً على ركوب القطار الميري!.
ونلاحظ أنه هنا عني كثيرا ببعض التفاصيل مما أخرج هذا النص عن خصائص القصص القصيرة جدا لكنه فى الوقت نفسه استفاد من تقنية المفارقة.
تحية للكاتب المجيد مجدي شلبي على منحنا هذه الوجبة القصصية الممتلئة بالأفكار والدلالات والباعثة على القراءة والتلقي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حمرة خجل . قصص قصيرة جدا – مجدى شلبي – محل الدراسة
2ـ نبيلة إبراهيم، فن القص، في النظرية والتطبيق، دار قباء للطباعة، ص:197.
بقلم : محمود الديداموني