البحث عن طريق للخروج من متاهة اللافتات المعكوسة: قراءة نقدية للكاتب الأديب فكرى عمر فى المجموعة القصصية (حمرة خجل) للأديب مجدى شلبى


(البحث عن طريق للخروج من متاهة اللافتات المعكوسة)
قراءة نقدية للكاتب الأديب فكري عمر في المجموعة القصصية (حمرة خجل) للأديب مجدي شلبي 
تشكل أقاصيص الكاتب "مجدي شلبي" في مجموعته "حُمرة خجل" واحدة من محاولات النقد الاجتماعى اللاذع للعبث الذي نعيشه. الواقع اليومى محبط ومكرور. لم تتبدل سوءاته رغم التقدم العلمي، ونبرة الحرية السارية في وسائل الإعلام المختلفة. لقد تنوعت وسائل إبراز هذه العيوب بطرق واضحة في المجموعة. لا يترك الكاتب لك الفرصة إلا لتراها من هذا المنظور الكاريكتوري، الذي يضخم الأشياء؛ فتراها بوضوح. تحاول التفكير معه فى حل ما.
يميل الكاتب إلى هذا اللون من ألوان التعبير الساخر. يعده، في فلسفته الخاصة، وسيلة ناجحة فعالة في علاج مشاكل نراها كل يوم دون أن نعيرها انتباهاً، وإن كانت الرسائل المباشرة في الأدب تبدو غير محبذة. إن القص يحبذ نقل رؤيته للحياة من خلال التلميح لا التصريح. الإيماء لا التجريح. طرح الأسئلة في نسيج السرد الشيق.
الأقاصيص هنا فى "حُمرة خجل" تتخفف من ذلك الالتزام تمسكاً بالتزام اجتماعى آخر. كأن عنوان المجموعة، العتبة الأولى للتعامل مع المجموعة ككل، يعطيك دلالة مراوغة. دلالة الحياء وخفوت الصوت حين تطالعه على غلاف المجموعة قبل أن تقرأها، ودلالة التوجع والقلق من كل هذه العورات المكشوفة للمجتمع بعد قراءة المجموعة. كأنه لا بد أن تعتريك حُمرة الخجل تلك وأنت تعيش كل هذا الفساد وتراه دون أن يكون لك موقف. محاولة للتغيير ولو بالكلمة. ولو بأقصوصة تبين ذلك مثلما فعل الكاتب. أقاصيص لاذعة، هكذا أحسستها وأن أقرأ، وظف فيها الكاتب إمكاناته المتعددة لينقل لنا ما يمور بداخله:
وظف الكاتب إمكاناته اللغوية فى بناء أقصوصة تعتمد على جملة قصيرة مكثفة تخلو من التفاصح والغموض.
بناء سردى اعتمد فى الغالب على المفارقة لإبراز عورات المجتمع المكشوفة.
استخدم الكاتب تكنيك القطع والتوازى بوحدات سردية مرقمة في "اليد الرحيمة" والقطع بالأرقام فقط في "غير مأسوف عليه".
احتل السارد أماكن متعددة في القصص. أحياناً يسرد بضمير المتكلم؛ مما يدلل على تورطه أو رغبته فى التورط بالحدث، وأحياناً يحكي بضمير الراوى العليم وهو فى هذه القصص يعمل كمراقب للحدث مثل أقصوصة "أول يوم دراسة" التى سأعود إليها بعد قليل.
شكل الحوار القصير فى بعض الأقاصيص متكأ لمعرفة الزمان، والمكان السردى، والمستوى الاجتماعى لشخصيات العمل الفني.
برع الكاتب فى توظيف النكتة قصصياً في "القلل القناوى"، و"اقرأ الحادثة"، وتوظيف المثل الشعبي أيضاً في ثنايا السرد القصصي.
وظف الكاتب أسلوب المقامات في أكثر من أقصوصة، وقد نجح فى ذلك نظراً لميل تلك القصص للتأكيد على الفكاهة الشعبية التي تحمل مفارقة ما بين ما يدعيه الراوب وما يفعله فب الحقيقة كما في "فوبيا الناس" و"محطة انتظار".
حملت القصص مضامين اجتماعية هادفة (وليست هاتفة)، وهذا هو الطريق الذى اختاره الكاتب ولا نملك سوى التعامل مع الأقاصيص سوى بمنطق الكاتب.
فى قصة "أول يوم دراسة" يواجهنا الطفل بالتمرد على الذهاب للمدرسة. من ثم التمرد على عالم النظام وعالم الكبار، يواجه الطفل بالقسوة وليس بتفهم أسباب التمرد والرفض، ومحاولة علاجها أسرياً وتربوياً. جُمل الأقصوصة قصيرة حادة النقلات تنقل لنا ذلك الحس بعنف الكبار تجاه مخاوف الصغار وحاجاتهم: "جذبته أمه بعنف. ألقت به فى ساحة طابور الصباح". أما مدير المدرسة فيبدو كمدير سجن وهو يصيح فى التلاميذ: "اسمع يا كلب انت وهو، مش عاوز صوت، اتكتموا خالص، اثبت مكانك، لو ثعبان قرصك فى الطابور لا تتحرك". الإذاعة المدرسية هي الأخرى تفتقد لأي نوع من التشويق والمتعة، ثم تكون المفارقة حينما تكون حكمة اليوم: "إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب" لا شيء تغير رغم كل الأبحاث والدراسات التربوية، يكون الهروب هو الوسيلة الوحيدة للتمرد على هذا الواقع التعليمي البائس لكن سور المدرسة عال. نفهم الآن سبب كراهية الطفل للمدرسة حتى قبل أن يراها، نفهم أن التلاميذ ينقلون لبعضهم خبراتهم المدرسية، والمعاملة التي تفتقد إلى أي نوع من التواصل الإنساني الحميم ناهيك عن الأسلوب التربوي الواجب. ينتهي الطفل بالاستسلام للرعب والقهر بأن يبول على نفسه في الطابور. هل يمكن أن نقول إن ذلك سيصبح سمت حياة الطفل حينما يكبر ويصبح مواطناً؟...
إن واقع المجموعة يبدو كابوسياً فاللافتة تشير للشارع المجنون لا للمستشفى المعروف بمستشفى الأمراض العقلية، والتواطؤ (عيني عينك) بين عامل المزلقان والباعة الجائلين، والأطفال يتم القبض عليهم لأنهم سيشكلون خطراً على النظام في المستقبل (قد نرى ظلالاً هنا من القصة القرآنية التى تحكي عن نشأة سيدنا موسى وعلاقته بفرعون)، والشاعر يشترى مستمعيه بالهدايا، والصحافي ينشر مخاطه فيعجب الجماهير. العبث يصل لدرجة قصوى حين يحكي بأسلوب بسيط واقعى وكأنه يحدث بالفعل فى عالم الحس.
* ملاحظات على المجموعة:
بعض عناوين المجموعة كانت مباشرة وكاشفة لمضمون الأقصوصة مثل "ضربة استباقية" و"اقرأ الحادثة".
القطع كان مصنوعاً فى قصة "عراك وعناق" ولم يضف للقصة عمقاً ومغزى بعدما مُزج بمفردات نشرة الأخبار الجوية.
بعض التعبيرات الفنية يمكن الاستغناء عنها في أكثر من قصة مثل: "استمرت الإذاعة المدرسية فى بث برامجها الإجبارية، والأنسب، فقراتها" وفي نفس القصة: "على أصوات قرع الطبول، وكأنهم سيدخلون معركة حربية انطلق الأطفال إلى فصولهم" التعليق دائماً من جانب الكاتب يلغى مساحة (المسكوت عنه) المطلوبة ليتفاعل القارئ مع العمل الفني، كما أن الشجرة تقف فى مكانها وهي لا توصف بالخائفة. وفي قصة "الميرى وسنينه": "حمد الله على سلامتك يا سبع البرمبة. بهذه العبارة ذات المعانى المقلوبة" وفى نفس الأقصوصة: "يحتسى مشروب الينسون؛ عله ينسيه ما به من أحزان وآلام" وغيرها فى بعض القصص، ويبدو أن الكاتب هنا قد تناسى المسافة بين كتابة المقالات الساخرة التي تستخدم وقع الكلمات المترادفة وتوظيف السجع وبين التكثيف والدقة المطلوبين فى القصة والأقصوصة.
اُستدرج الكاتب للترويج لمعنى فج، من وجهة نظرى، باستخدام نكتة شعبية فى أقصوصة "اشتباك" إذا أن الفاصل بين التناول الجنسي الفني والتناول الشعبي الفج هو خيط رهيف قد ينقطع إذا أُسيء التعامل معه، ورغم ميل الكاتب فى باقى القصص إلى تعبيرات رهيفة تومئ بذكاء إلى ما يريدنا أن نعرفه.
هناك أقصوصتان "الرقم واحد" و "الحل الأيسر" كان تناول الحدث فيهما بسيطاً، لم يتعمق الكاتب بجملة واحدة عن بطل العمل؛ ليجعلنا نعرفه أو نتعاطف معه، وكان الحل كليشيهياً غير مقنع سردياً.
رغم ذلك فإننى أعتقد أن الكاتب أمامه طريق مفتوح فى مجال الأقصوصة والقصة القصيرة لأنه يمتلك حساً ساخراً كما أن له خيالاً خصباً، وعين ثاقبة يضعها ببراعة على ما نراه أمامنا كل يوم وتفوتنا ما به من فواجع، والأجمل هو امتلاك رؤية وطريق للعبور إلى ما يريد.
كانت المجموعة تعبيراً عن ذلك القهر الذى يعيشه المواطن فى شتى الدروب بأسلوب يصل لقراء متعددي المواهب والقدرات، وهذا نجاح سيثبته الكاتب بتناوله الأعمق لما نعايشه، وتلافيه لبعض الخيوط الشائكة بين فن الأقصوصة والقصة القصيرة، وبين المقال الساخر.
فكرى عمر
7/10/2012